الثلاثاء، 11 مايو 2010

الاسلام والتعايش مع الاخر




د \ محمد عمارة


منذ اللحظة الأولى لقيام دولة النبوة ـ بالمدينة المنورة ـ (سنة 1 هـ سنة 692م) اعتمد دستور هذه الدولة ـ وربما لأول مرة في التاريخ ـ مبدأ التعددية الدينية في الرعية السياسية للدولة ـ على قدم المساواة ـ ولذلك، أدخلت هذه الدولة يهود المدينة ـ العرب منهم وحلفاءهم العبرانيين ـ ضمن رعية الدولة، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، مع احتفاظهم بحريتهم في الاعتقاد الديني.. نص دستور هذه الدولة ـ "الصحيفة" ـ "الكتاب" ـ على أن ".. يهود أمة مع المؤمنين.. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، ومن تبعنا من يهود فإن لهم النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وأن بطانة يهود ومواليهم كأنفسهم. وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصح والنصحية والبر المحض من أهل هذه الصحيفة دون الإثم.."



هكذا جعلت دولة النبوة "الآخر الديني" ـ اليهودي ـ جزءًا من الأمة والشعب والرعية ـ أي جزءًا من "الذات" ـ لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.


وإذا كانت القطاعات العربية ـ من قبائل المدينة ـ التي كانت قد تهودت قبل الإسلام ـ قد دخلت في الدين الإسلامي .. فإن القبائل العبرانية الثلاث ـ بني قينقاع، وبني النضير ، وبني قريظة ـ قد سلكت طريق نقض الموادعة والمعاهدة التي أتاحها لها دولة النبوة في المدينة.. فبدأ الصدام بينها وبين المسلمين بعد ثمانية عشر شهرًا من قيام الدولة الإسلامية الأولى!


.لقد بدأوا "حربًا نفسية" ضد الإسلام والمسلمين عندما تحولت القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام (في 17 شعبان سنة 2 هـ ـ فبراير سنة 624م).. ونزل في الرد على حربهم النفسية هذه قرآن كريم :{ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا ولاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ المَشْرِقُ والْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة : 142)


وكان هؤلاء اليهود العبرانيون ـ الذين استوطنوا الواحات الزراعية من حول المدينة ـ (يثرب) ـ والذين سادوا في المدينة بواسطة الإيقاع بين قبائلها العربية ـ الأوس والخزرج ـ حريصين على أن تقوى شوكة الدولة الإسلامية التي وحدت هذه القبائل ـ دينيًا.. وسياسيًا ـ .. فلما انتصر المسلمون نصرهم الكبير في موقعة بدر (20 رمضان سنة 5 هـ 17 مارس سنة 624م) زاد القلق اليهودي، وتصاعد الخوف من قوة الدولة الإسلامية، فأرادوا فتح جبهة داخلية للشقاق في المدينة، فكان نقض يهود بني قينقاع لعهدهم مع الدولة الإسلامية، في منتصف شوالي سنة 2 هـ ـ إبريل سنة 624م ـ .. ولقد نزل في خيانتهم هذه، ونقضهم للعهد قرآن كريم: {الَذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ} (الأنفال: 56 ـ 58)

.لقد كانوا عاهدوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "أن يوادعوه ـ يهادنوه ـ فلا يحاربوه ولا يحاربون معه".. لكنهم نقضوا هذه الموادعة.. واستفزوا المسلمين بتعمدهم كشف عورة إمرأة مسلمة، ذهبت إلى سوقهم التجاري في المدينة!.. فحاصرهم المسلمون خمس عشرة ليلة، حتى سلموا بالخروج من المدينة.. وذهبوا إلى "أذرعات" بأرض الشام.


هكذا بدأت علاقة الإسلام والمسلمين بالآخر اليهودي في دولة المدينة ـ لقد فتح الإسلام أبواب التعايش بين الديانات المختلفة في إطار رعية الدولة الواحدة، مقررًا لهؤلاء اليهود "النصر والأسوة والنصحية والبر المحض".. لكنهم بدأوا عض اليد التي أحسنت إليهم.. فكانت حربهم النفسية ـ ضد تحويل القبلة ـ أولى معاركهم العداونية.. ثم جاء نقض بني قينقاع للعهد والموادعة عقب انتصار المسلمين في بدر، جزءًا من تنامي قدوة الدولة الإسلامية التي فتحت لهم أبواب التعايش والتعاون والسلام!.

ليست هناك تعليقات: