السلام عليكم مقالة ل / د عمرو عبد الكريم
حدّد الله غايته من خلق البشر بقوله: { لِتَعَارَفُوا } "الحجرات 13" ممهدا تلك الغاية بندائه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } فكان خطابا عاما لبني البشر؛ كما ناط الله عز وجل الكرامة الإنسانية بمطلق البني آدمية؛ فقال: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } "الإسراء: ٧٠" وهكذا من يستقريء الخطاب القرآني يجده: أمرًا بالتواصل بين الناس؛ ودفعا لمحفزات التعارف بين البشر علي اختلاف أجناسهم ومللهم ونحلهم وعقائدهم وألسنتهم؛ بل جعل سبحانه من اختلاف الألسنة والألوان آية من آيات إعجازه في الخلق وجعل من سنته القدرية بقاء الاختلاف { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ......... وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ } "هود: 118- 119". ولم يكن من منهج القرآن ولا من هديه تقسيم الناس إلى اللونين المطلقين: الأبيض والأسود فقط، فيكون الموقف من ثَمّ: إما مع أو ضد، فعلى الرغم من حرب الإسلام التي لا هوادة فيها مع الشرك إلا أن القرآن يركز في أمره للقتال علي أئمة الكفر { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } "التوبة 12" ويعلل ذلك بأنهم لا أيمان لهم ولا عهود.
وفي حين كان جيش الإسلام يقاتل الكفر وأئمته كان رسول الإسلام يعقد المعاهدات ويشكّل الأحلاف مع خزاعة؛ وفي حين كانت المعركة حامية الوطيس مع الكفار لم يضع القرآن الكريم الشرك كله في سلة واحدة بل استثنى { الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ } "النساء: ٩٠".
كما نجد المنهج القرآني في تقويم الآخرين ينطلق من رؤية عادلة بغض النظر عن القرب والبغض؛ فالعدل هو أقرب للتقوى ونهانا عن الميل مع الغني أو القريب { إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّـهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا} "النساء: ١٣٥".
أظفر الله نبيه في بدر الكبرى وأسَرَ رموز المشركين قال الرسول الكريم: "لو كان المطعم ابن عدي حيا وكلمني في هؤلاء الأسرى لأطلقتهم له" ورغم موت المطعم على الشرك فلقد كان هو من أجاره حين عودته من الطائف؛ فحفظ له الرسول هذا المعروف؛ فالوفاء من شيم النفوس الكبار.
وعندما دار الصراع بين الفرس الوثنيين والروم النصارى كانت عواطف المسلمين مع أهل الكتاب؛ ومن ثم كانت مشاعر الفرح والتأييد عندما انتصر أهل الكتاب: { غُلِبَتِ الرُّومُ {٢} فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ {٣} فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّـهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {٤} بِنَصْرِ اللَّـهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } "الروم 2-5".
إن تواصل المسلمين مع مختلف شعوب الأرض والتعاون علي البر والتقوى وما ينفع الناس ويمكث في الأرض ونصرة المظلوم ومساندة الضعيف ونشر مكارم الأخلاق والقيم الإنسانية العليا لهي من أفرض الفرائض التي أمر الله بها عباده.
وما أشد حاجة المسلمين اليوم إلي "حلف فضول" جديد يعلي من مكارم الأخلاق: يردع الظالم وينتصر للمظلوم ويعين الضعيف ويحمل الكَلّ.
إن الدين الذي يقبل أن يكون أخوال أبناء معتنقيه من دين آخر (أهل كتاب سماوي سابق) لهو دين يفتح صدور أصحابه للتواصل مع الخلق وإن اختلفت العقائد وتغايرت الملل؛ وتباينت النِحَلّ.
ومما يعين علي التواصل مع الآخرين هو "إنصافهم"؛ ويعني إنصاف الآخرين إدراكا كاملا لما عند الآخرين من حسنات ومميزات ولما يعانونه من مشكلات ولما يعيشون فيه من ظروف مختلفة: ظروف النشأة والتكوين والظروف الآنية وهذه المعرفة تلزمنا بأمرين (كما يقول د. عبد الكريم بكار):
اولا :
التقدير لجوانب الخير والميزات التي يتحلون بها مهما كان منهجهم في التفكير أو في الحياة العامة مخالفا لما نحن عليه؛ والخطأ الذي نقع فيه دائما إننا نضع في بعض الأحيان مقاييسا للكمال والنجاح والثواب ثم نحاول تطبيقها علي الآخرين؛ ونحكم بعد ذلك عليهم بأحكام لا تخلو من القسوة غالبا؛ وقد تعودنا أن نتجاهل وجهة نظر الآخرين في مقاييسنا تلك وتكون النتيجة أن يفعل الآخرون نحونا مما نفعل فتتحول مجتمعاتنا إلى مجتمعات تلاوم وتنابز.
ثانيا :
إعذار الآخرين؛ والإعذار ليس تصويب ما لدى الآخرين من سلوك وأفكار وإنما هو تفهّم للوضع العام للآخرين؛ وإدراك أن ذلك الوضع نتاج مجموعة معطيات عديدة وأن تلك المعطيات لو تجمعت في حياة واحد منا لكان وضعه مشابها (في الجملة) لأوضاع الآخرين التي ننتقدها ومن هنا ينسبون إلى عمر رضي الله عنه انه قال: أعقل الناس أعذرهم للناس.
إن المعرفة الكاملة صفح كامل؛ وإن لوم الآخرين وتجريحهم لن يحل أي مشكلة وإنما الذي يحلها هو مساعدتهم علي تجاوزها وتهيئة الظروف المناسبة لوضع أفضل.
وإن من الأمور التي يحسن البدء بها لتقليل مساحات الاتفاق هو توسيع رقعة الحديث في المشترك الإنساني؛ كما أن من الذكاء والفطنة أن نحذر من تعريض الآخرين للإجابة بكلمة "لا" أو دفعهم لها دفعا؛ بل ينبغي الحرص علي توجيه الآخرين وتحفيزهم على الإجابة بكلمة "نعم" كأن تسألهم في بداية الحوار أسئلة فيها شبه اتفاق أو اتفاق كامل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق